قراءة في قصيدة " لا أنت يا حبيبتي معقولة " لنزار قباني الأستاذ : حسان الحوراني
صفحة 1 من اصل 1
قراءة في قصيدة " لا أنت يا حبيبتي معقولة " لنزار قباني الأستاذ : حسان الحوراني
يقول الشاعر نزار قباني:
لا أنت يا حبيبتي معقولة
ولا أنا معقول ..
هل من صفات الحُبِّ
أن يحطم العاديَّ والمألوفَ والمعقولْ ؟
هل من شروط الحبِ
أن نجهل يا حبيبتي أسماءنا ؟
هل من شروط الحب , يا حبيبتي ؟
أن لا نرى أمامنا .........................
ولا نرى وراءنا .........................
هل من شروط الحب , يا حبيبتي ؟
بأن أسمى قاتلاً حين أنا المقتول ...
تحليل القصيدة :
تخطى الشعر الحديث بواسطة شعراء متميزين الحواجز النمطية للشعر العربي فصاغوا أساليب مغايرة كلياً لما كان سابقاً من الشعر التقليدي , ولدراسة هذه الأساليب لا بدَّ لنا من دراستها وفق المنهج الأسلوبي الذي يُعنى بدراسة هذه الظواهر .
أولاً : الانزياح :
وهو خروج الشاعر عن الأساليب النمطية المعروفة والتعبير بأساليب جديدة من خلال الألفاظ والمعاني وانسجامها مع السياق الكلي للنص ؛ مما يولد معنىً جديداً يقصده الشاعر في داخل أعماق النص لا المعنى الخارجي الذي يعتبر مجرد زخرفة لفظية يدلل الشاعر من خلالها على المعنى المقصود .
والشاعر نزار قباني في هذه القصيدة كما في كل قصائده يخرج عن الإطار العام للألفاظ ويتخطى المعاني المطروقة إلى أخرى مبتكرة ففي بداية قوله : ( لا أنت يا حبيبتي معقولة , ولا أنا معقول ) خروج عن الصورة المعروفة بين المحبين فالحب يصور الحياة بأبهى أشكالها بعيداً عن المعاناة والقسوة ويرسم صورة خيالية تضع المحبين وكأنهم في قصر عاجي لا يأبهون بالحياة الواقعية وما تحتويه من معاناة , إلا أن شاعرنا نزار قباني على دراية بالواقع وتحدياته وبالحياة وقسوتها فهو يتابع التساؤل فهل من صفات الحب أن يحطم العادي والمألوف والمعقول ؟ لكن التساؤل متى يستطيع ذلك ؟ وما الحب إلا هروب من الواقع إلى عوالم خيالية يبتكرها المحبون بعيداً عن الحياة المألوفة والعادية وبعيداً عن المعقول ....
وهذا الانزياح كامن في خروج الحب عن صورته النمطية إلى صورة أخرى تعبر عن الواقع والدليل على ذلك متابعة الشاعر قوله : هل من شروط الحب , يا حبيبتي ؟ أن نجهل أسماءنا ؟ وقوله : أن لا نرى أمامنا , ولا نرى وراءنا ... أن أسمى قاتلاً حين أنا المقتول .
ثانياً : التكرار :
يشكل التكرار ظاهرة أسلوبية أخرى في شعر نزار قباني فنزرا لا يهدف بتكراره إلى إعادة صورة فنية أو تأكيد معنىً أو تأكيد المعنى بإعادة اللفظ كما في الشعر النمطي المعروف , فهو يستخدم التكرار ليرسم صورة أخرى تؤكد الواقع وتكون آيةً أخرى لهذا الواقع بجميع أشكاله .
فتكراره الأسلوبي لـ لا أنت .. معقولة , لا أنا... معقول ؛ آية ودليل آخر على وجود من يوافقه الرأي في أن الحياة خرجت من صورتها الطبيعية البسيطة إلى الحياة المعقدة الصعبة أو الحياة المركبة , ثم يتابع الشاعر تكرار هذا التساؤل ( هل من شروط الحب ) ففي كل تكرار آية وحجة تؤكد خروج الحياة عن طبيعتها فهل من الطبيعي أن لا نرى أمامنا ولا نرى وراءنا وهل من الطبيعي أن يسمى المقتول قاتلاً والقاتل مقتولاً ؟ فهذا التكرار خروج أسلوبي بالشعر عن المألوف والمعقول .
ثالثاً : الاختيار :
لطالما اعتنى الشعراء باختيار ألفاظهم ومعانيهم وكانت التراكيب تظهر في صورة نمطية فكل عبارة تدل على معنى فللكرم معانٍ محددة وللشجاعة وللغزل وغيرها... وهكذا حتى أصبحت هذه المعاني والألفاظ تشير إلى مدلول معين واحد ولا نستطيع اجتياز هذا الحاجز اللغوي والنمطي.
إلا أنَّ الشعر الحديث تخطى هذه العقبة وفتح المجال أمام الشعراء فأصبحوا يعبرون بأساليب جديدة مبتكرة وأصبحت الألفاظ والتراكيب نفسها تعبر عن العديد من المعاني وتشير إلى دوال كثيرة متنوعة , وفي هذه الأبيات نرى شاعرنا نزار قباني يختار "الحب" ليعبر به عن العلاقة السامية التي تجمع بين المحبين وليرسم به الصورة المثلى للحياة التي يريد أن يعيشها المجتمع بعيداً عن الواقع المرير والصورة الجشعة للحياة ومع أن هذا يعتبر هروباً من الواقع إلى عالم خيالي مبتكر إلا أنه يلامس الإنسانية الموجودة في البشر وإن اختفت بسبب المضي وراء متاع الدنيا , كما أن اختيار الشاعر لأسلوب الاستفهام ( هل من ) يعتبر دليلاً قوياً لذلك ؛ فهذا الاستفهام ليس مجهولَ الجواب عند الشاعر إلا أنه استنكاري يتطلب جواباً عند المتلقي فقط ؛ لأنَّ الشاعر وعى الإجابة وصاغها بأسلوب الاستفهام ليثير التساؤل عند كل متشكك في الواقع , فإلى متى نستطيع ألا نرى أمامنا وإلى متى نتجاهل الماضي ونهرب منه , وقد يفتح هذا التساؤل الباب على مصراعيه ويجعلنا نفكر ملياً في الواقع فهل بسبب الخوف لا نستطيع أن نرى أمامنا أو وراءنا ولا يجعلنا نتطلع إلى المستقبل... ويتابع الشاعر بطرح الأدلة على ذلك فحين تُبدل الأدوار بين الضحية والقاتل يصبح من الصعب المضي إلى الأمام إلا أننا نستطيع الرجوع قليلاً إلى الوراء لنجد الإجابة على هذا فحين تُحطم القيم والأمور المألوفة والمعقولة عند البشر تتحطم الحياة بهذا الشكل الرهيب .
ونزار على دراية كافية بالتفكير المشرقي هذا التفكير الذي لا يروقنا أحياناً إلا أنه تفكير منفتح على الواقع فمن أجل الحصول على الإجابة لما نريده لا بد لنا من العودة قليلاً إلى الوراء لنتقدم من خلاله إلى المستقبل .
ثمَّ إن اختيار الشاعر للتركيب ( يا حبيبتي ) لهو لأقوى دليل على حبه للحياة النموذجية التي يبتغيها لمن يحب , فهو يستدر عطف الحياة بأجمل الألفاظ على أبنائها , وهو في هذا القول ليس مغرقاً في الرومانتيكية المشبعة بالخيال فقط وإنما يتطلع إلى المستقبل ؛ فالحياة التي يطلبها لا تؤخذ بالرفق واللين وإنما تحتاج إلى الإلحاح والطلب المستمر وقد تدرج نزار من خلال تكراره لـ ( يا حبيبتي ) فاستخدمه مرتين على سبيل استدرار عطف الحياة ثم تدرج فأعاد استخدامه في أسلوب الاستفهام ليكون وقعه أقوى وتأثيره أشد وهذا التدرج هنا عقلاني ؛ لأنَّ الشاعر يبدأ بطرح الواقع ثم ينتقل إلى رفضه من خلال أسلوب الاستفهام الاستنكاري فبين الاستخدامين بون شاسع .
رابعاً: الرمزية :
تشكل الرمزية ظاهرة أخرى في شعر نزار قباني فهو لا يُطلق الألفاظ والمعاني ليدلل بها على معانيها الحقيقة بل ليرمز بها إلى أخرى تكتشف من السياق الداخلي للنص , فالحب عنده ليس مجرد علاقة بين المحبين فقط , بل هو حب للحياة بأكملها ويتضح ذلك عندما نبدل لفظة ( الحب ) بلفظة (الحياة ) التي تجمع بين الناس أيضاً فهو يريد من هذه الحياة أن تجمع بيننا كما يجمع الحب بين المحبين فلا تُحطَّم الحياة الطبيعية والمألوفة ولا تخرج عن المعقول الذي لا يألفه البشر وإنْ مارسوه بصورة أو بأخرى , ودليل ذلك أيضاً قول الشاعر: هل من شروط الحياة " الحب " أن لا نرى أمامنا , ولا نرى وراءنا وهل من شروط الحياة أن أسمى قاتلاً حين أنا المقتول .
فهذا دليل واضح على دعوة الشاعر نزار قباني إلى العودة بالحياة إلى طبيعتها مثلما تكون العلاقة بين المحبين كما كانت سابقاً بين آدم وحواء كعلاقة سامية بعيداً عن الشر والكيد والعنف .
cheers cheers cheers cheers cheers
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى